من الدوريات والمكتبات إلى الإنترنت
منذ قرون بعيدة – تعود إلى اكتشاف الكتابة نفسها – اعتاد البشر تدوين ما يحتاجون إليه من أحداث وأخبار، وحفظها في أماكن بعينها مثل المكتبات ودور الوثائق، وحتى في الخزائن الخاصة، وقد اعتاد الأقدمون زيارة تلك الأماكن للعثور على حدث أو معلومة ما، أو بالتقصي الشخصي، واستمر هذا الوضع التقليدي حتى خرج إلى النور الابتكار الذي غيَّر وجه البشرية لما هي عليه الآن؛ الإنترنت.
تطور الإنترنت من شبكة تواصل معلوماتية لاسلكية مغلقة، استخدمها الجيش الأمريكي للحفاظ على سرية معلوماته في أوائل السبعينيات، وكانت تعتمد على تقنية أولية بلغة برمجة غاية في البساطة آنذاك، وهي (Transmission Control Protocol TCP)، ولكن في أوائل الثمانينيات أتيحت الشبكة الشهيرة للاستخدام العام، ومنذ ذلك الحين، تطورت الشبكة وأدخلت عليها مجموعة من التعديلات أتاحت حفظ المعلومات وتخزينها في شكل بيانات (Data) معنونة، ومن ثم احتاج الإنسان إلى معرفة عنوان البيانات المراد العثور عليها، ومن هنا بدأت فكرة إنشاء المواقع (Websites)، والتي سهَّلت بشدة على المستخدم إيجاد البيانات والمعلومات المراد العثور عليها.
الفهرسة الرقمية.. الشكل الأوَّلي
بعد أن بدأت المؤسسات ودوائر المعارف باستخدام الإنترنت، ظهر أول بروتوكول برمجي بصيغة «FTP» لتحديد مواقع بعينها وإضافة البيانات لها، وكان البحث عن المواقع يجري مباشرة من خلال نوافذ المتصفحات، باستخدام كلمة تعريف مفتاحية هي «WHOIS» وكانت تضاف قبل الكلمة أو المصطلح المراد البحث عنه ومن ثم تظهر نتائج البحث متطابقة مع الكلمات المدخلة تمامًا، ولم يكن هناك ما يعرف بالتصحيح أو الترجيحات أو النتائج المتقاربة، فكلها خصائص لم تكن متوفرة آنذاك.
لاحقًا وفي أواخر الثمانينيات، ظهر بروتوكول آخر لتعريف المواقع على الشبكة عرف باسم بروتوكول «Gopher (كان يستخدم لتبادل الملفات النصية أو المستندات ومشاركتها، وليس أي نوع آخر من الملفات)» وهو ما كان الميلاد الحقيقي لما يعرف الآن بمحركات البحث (Search engines).
وفي أوائل التسعينيات ولد أول محرك بحث استخدم تقنية متطورة لفهرسة المواقع ولتسهيل العودة إليها باستخدام تقنية التوصيل المباشر بعناوين مخزونة على الشبكة الافتراضية، لاحقًا تطورت تقنية البحث وظهرت تقنية عرفت باسم الزحف (Crawling)، وتتلخص في إدخال العناوين أو الكلمات المراد البحث عنها إلى مستطيل بحث ينقلها إلى برمجيات اتصال زاحفة (Crawlers)، تمسح الفهرس المخزون – كانت الفهرسة تجري يدويًّا وليس أوتوماتيكيًّا – على محرك البحث، ثم تُظهر للباحث النتائج المطابقة لما أدخله، ثم بعدها وخلال عقدين تطورت محركات البحث إلى تضمين المواقع وفهرستها تلقائيًّا من خلال خوارزميات الفهرسة (Indexing) ثم الترتيب (Ranking).
ما قبل «جوجل».. محطات مهمة في تاريخ محركات البحث
1. محرك «آرتشي».. الجد الأكبر لمحركات البحث
يطلق البعض على محرك البحث هذا لقب الجد الأكبر لمحركات البحث، محرك «Archie» – اختصارًا لكلمة Archive – ظهر لأول مرة على يد الباحث آلان إيمتاج عام 1990م، الذي عمل أستاذًا بجامعة ماكجيل في كندا، ولم يكن الإنترنت نفسه شائعًا للمستخدمين العاديين، بل كان آنذاك يستخدم لربط قواعد بيانات المؤسسات العلمية والبحثية. كما ذكرنا آنفًا عمل هذا المحرك على فهرسة المواقع وإظهار نتائج البحث عنها بصيغة مخدم المواقع القديمة FTP – الآن الشائع هو HTTP – وكانت المواقع تحتوى على الملفات النصية فقط بدون أي ملفات وسائط للصوت أو الصورة أو الفيديو.
2. محركا «فيرونيكا وجاجهيد».. التطور الطبيعي لمحركات البحث
ثاني المحطات في عالم محركات البحث كان فيرونيكا (Veronica)، وهو ما كان بمثابة التطور الثانوي لسابقه الذي اعتمد على فهرسة المواقع بصيغة خادم FTP ذات القدرات المحدودة، ففي عام 1992م طوَّر كلٌّ من ستيف فوستر وفريد باري الباحثان بجامعة ولاية نيفادا الأمريكية محرك البحث الشهير آنذاك فيرونيكا، واستخدما فيه صيغة خادم مختلفة بدلًا عن FTP، وهي صيغة سميت Gopher وتميزت بقابلية كبيرة لفهرسة البيانات كبيرة الحجم.
وأضاف فيرونيكا لمحركات البحث ميزة مهمة جدًّا، وهي الإشارة إلى النتائج المشابهة للكلمات المفتاحية – وليس المتطابقة فقط – المراد البحث عنها. بعدها بحوالي عامين ظهر (Jughead) ومحرك آخر يعمل بالتقنية ذاتها، استخدم في البحث الأكاديمي للجامعات الأمريكية والبريطانية.
3. محرك «ياهو».. ثورة محركات البحث تبدأ!
في عام 1994م بدأت ثورة محركات البحث بظهور عملاق التكنولوجيا آنذاك، وهو «ياهو»، الذي طوره ديفيد فيلو وجيري يونج، اللذان استغلا ظهور تقنية وصف المحتوى المختصر (Meta Description) في محرك أكاديمي شهير سبق ياهو، وهو «ALIWEB»، ومن خلال هذه التقنية ركز صانعا ياهو على عملية الفهرسة للمواقع المهمة ذات الرواج العالي بين رواد الإنترنت القلائل آنذاك، ومن ثم عملا على تنقيح نتائج البحث وترتيبها، مع تطوير آليات الزحف، التي ضمنت ظهور النتائج المراد البحث عنها بدقة، وسرعة، وهو ما أتاح لهما إدخال عالم الأعمال إلى الشبكة العنكبوتية، فقد تسابقت الشركات والمؤسسات للدفع لياهو في مقابل تنصيب مواقعهم ولضمان ظهورها حصرًا أثناء بحث المستخدمين عن السلع أو الخدمات.
ولكن ياهو لم تستغل الأمر تجاريًّا للكسب فقط؛ فقد أتاحت إضافة مواقع المعلومات إلى فهرسها الضخم بدون مقابل، وهو ما أضاف للمحرك الشهير شعبية كبيرة بين مستخدمي الإنترنت في التسعينيات بدون منافسة تقريبًا، حتى ظهر محرك آخر يحمل الخصائص ذاتها، هو «WebCrawler»، وإن لم يحظ بالشعبية ذاتها التي تمتع بها ياهو.
4. محرك «باك راب».. الأب الشرعي لـ«جوجل»
إذا كان محرك بحث آرتشي هو الجد لكل محركات البحث، فيمكننا اعتبار «BackRub» الأب الشرعي المباشر لمحرك بحث «جوجل» الشهير الذي يعتلى القمة وحده – تقريبًا – اليوم. ففي عام 1996م ابتكر المبرمجان ورجلا الأعمال الشهيران لاري بيج وسيرجي برين، محرك بحث «BackRub» ليعمل بخوارزمية ذكية تصنف وتفهرس المواقع تلقائيًّا بناء على المحتوى الأكثر بحثًا.
بعدها أضافا خدمة مدفوعة أخرى للمحرك الأب؛ ألا وهي الإعلانات المدفوعة مقابل الزيارات (Pay Per Click)، وبعد فترة قليلة أضافا إلى محرك البحث «BackRub» ميزة مهمة أخرى، وهي الربط الارتجاعي (BackLinking) والتي تتيح ربط الفهارس المتاحة على الإنترنت بقاعدة بيانات «BackRub»، أي إنهما ضاعفا حجم محركهما مئات المرات، وهو ما ساهم في ميلاد «جوجل» بشكله الأوَّلي.
«جوجل».. الميلاد والتطور
في الرابع من سبتمبر (أيلول) عام 1998م أطلق لاري بيج وسيرجي برين محرك بحث «جوجل» الذي تطور عن محرك «BackRub». والمثير للدهشة أن «جوجل» لم يحظ آنذاك بالشعبية التي يتمتع بها اليوم، برغم أنه كان أكثر سرعة ودقة في عملية إظهار نتائج البحث، ولكن محرك «ياهو» كان هو من يتمتع بالشعبية الأكبر حتى الأعوام الأولى من الألفية الثانية، وحتى إنه أثار سخرية البعض لأن اسمه ليس صحيحًا؛ بما أن كلمة (Google) من المفترض أن تكتب (Googol)، وهي التهجئة الصحيحة لرقم 1 وبجواره 100 صفر، ولكن لاحقًا أوضحت الشركة أن الاسم ليس خاطئًا بل إنه تحريف بسيط للتلاعب اللفظي.
ومن الحقائق الطريفة عن «جوجل» أيضًا أن الشركة العملاقة آنذاك، ياهو، عرضت عام 2002 مبلغ 3 مليارات دولار على «جوجل» مقابل شراء محرك بحثها، لكن «جوجل» رفضت العرض، الآن تبلغ قيمة «جوجل» المالية وحدها حوالي تريليون دولار، وهو ما يجعلها من أعلى مؤسسات العالم قيمة اليوم، بخلاف تربعها على عرش محركات البحث بين مجموعة من منافسيها الذين لم يستطيعوا الاقتراب من قدرات محرك بحثها الشهير، والذي يتعامل يوميًّا مع ما يقرب من 20 ألف تيرابايت «1 تيرا بايت = 1000 جيجابايت» من البيانات يوميًّا تقريبًا.
مصدر: https://www.sasapost.com/search-before-google/